فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {إِذَا السماء انفطرت}
قال الواحدي: قال المفسرون: انفطارها انشقاقها كقوله: {وَيوم تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] والفطر: الشق، يقال: فطرته فانفطر، ومنه فطر ناب البعير: إذا طلع.
قيل: والمراد: أنها انفطرت هنا لنزول الملائكة منها، وقيل: انفطرت لهيبة الله.
{وَإِذَا الكواكب انتثرت} أي: تساقطت متفرقة يقال: نثرت الشيء أنثره نثراً.
{وَإِذَا البحار فجرت} أي: فجر بعضها في بعض، فصارت بحراً واحدًّا، واختلط العذب منها بالمالح.
وقال الحسن: معنى {فجرت} ذهب ماؤها، ويبست، وهذه الأشياء بين يدي الساعة، كما تقدّم في السورة التي قبل هذه.
{وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ} أي: قلب ترابها، وأخرج الموتى الذين هم فيها، يقال: بعثر يبعثر بعثرة: إذا قلب التراب، ويقال: بعثر المتاع قلبه ظهراً لبطن، وبعثرت الحوض وبعثرته إذا هدمته، وجعلت أعلاه أسفله.
قال الفراء: {بعثرت} أخرج ما في بطنها من الذهب والفضة، وذلك من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها.
ثم ذكر سبحانه الجواب عما تقدّم فقال: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأخرت} والمعنى: أنها علمته عند نشر الصحف لا عند البعث لأنه وقت واحد من عند البعث إلى عند مصير أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، والكلام في إفراد نفس هنا، كما تقدّم في السورة الأولى في قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] ومعنى {مَّا قَدَّمَتْ وَأخرت}: ما قدّمت من عمل خير أو شرّ، وما أخرت من سنة حسنة أو سيئة لأن لها أجر ما سنته من السنن الحسنة، وأجر من عمل بها، وعليها وزر ما سنته من السنن السيئة، ووزر من عمل بها.
وقال قتادة: ما قدّمت من معصية، وأخرت من طاعة، وقيل: ما قدّم من فرض، وأخّر من فرض، وقيل: أوّل عمله وآخره.
وقيل: إن النفس تعلم عند البعث بما قدّمت وأخرت علماً إجمالياً لأن المطيع يرى آثار السعادة، والعاصي يرى آثار الشقاوة، وأما العلم التفصيلي، فإنما يحصل عند نشر الصحف.
{يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} هذا خطاب الكفار: أي: ما الذي غرّك، وخدعك حتى كفرت بربك الكريم الذي تفضل عليك في الدنيا بإكمال خلقك وحواسك، وجعلك عاقلاً فاهماً، ورزقك وأنعم عليك بنعمه التي لا تقدر على جحد شيء منها.
قال قتادة: غرّه شيطانه المسلط عليه.
وقال الحسن: غرّه شيطانه الخبيث، وقيل: حمقه وجهله.
وقيل: غرّه عفو الله إذ لم يعاجله بالعقوبة أوّل مرّة، كذا قال مقاتل.
{الذى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فعدلك} أي: خلقك من نطفة، ولم تك شيئًا، فسوّاك رجلاً تسمع وتبصر وتعقل، {فعدلك} جعلك معتدلاً.
قال عطاء: جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة.
وقال مقاتل: عدّل خلقك في العينين، والأذنين، واليدين، والرجلين، والمعنى: عدل بين ما خلق لك من الأعضاء.
قرأ الجمهور: {فعدلك} مشدّداً.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالتخفيف، واختار أبو حاتم، وأبو عبيد القراءة الأولى.
قال الفراء، وأبو عبيد: يدلّ عليها قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] ومعنى القراءة الأولى: أنه سبحانه جعل أعضاءه متعادلة لا تفاوت فيها، ومعنى القراءة الثانية: أنه صرفه، وأماله إلى أيّ صورة شاء، إما حسناً وإما قبيحاً، وإما طويلاً وإما قصيراً.
{في أي صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} في أيّ صورة متعلق بـ: {ركبك}، و{ما} مزيدة، و{شاء} صفة لصورة، أي: ركّبك في أيّ صورة شاءها من الصور المختلفة، وتكون هذه الجملة كالبيان لقوله: {فعدلك} والتقدير: فعدلك: ركبك في أيّ صورة شاءها، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال أي: ركبك حاصلاً في أيّ صورة.
ونقل أبو حيان عن بعض المفسرين أنه متعلق بعدلك.
واعترض عليه بأن {أيّ} لها صدر الكلام، فلا يعمل فيها ما قبلها.
قال مقاتل، والكلبي، ومجاهد: في أيّ شبه من أب أو أمّ، أو خال أو عم.
وقال مكحول: إن شاء ذكراً، وإن شاء أنثى، وقوله: {كَلاَّ} للردع والزجر عن الاغترار بكرم الله، وجعله ذريعة إلى الكفر به، والمعاصي له، ويجوز أن يكون بمعنى: حقاً.
وقوله: {بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين} إضراب عن جملة مقدّرة ينساق إليها الكلام، كأنه قيل: بعد الردع، وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجاوزونه إلى ما هو أعظم منه من التكذيب بالدين وهو الجزاء، أو بدين الإسلام.
قال ابن الأنباري: الوقف الجيد على {الدين}، وعلى {ركبك}، وعلى {كلا} قبيح، والمعنى: بل تكذبون يا أهل مكة بالدين، أي: بالحساب، وبل لنفي شيء تقدّم، وتحقيق غيره، وإنكار البعث قد كان معلوماً عندهم، وإن لم يجر له ذكر.
قال الفراء: كلا ليس الأمر، كما غررت به.
قرأ الجمهور {تكذبون} بالفوقية على الخطاب.
وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة بالتحتية على الغيبة.
وجملة: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين} في محل نصب على الحال من فاعل {تكذبون}، أي: تكذبون، والحال أن عليكم من يدفع تكذيبكم، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان ما يبطل تكذيبهم، والحافظين: الرقباء من الملائكة الذين يحفظون على العباد أعمالهم، ويكتبونها في الصحف.
ووصفهم سبحانه بأنهم كرام لديه يكتبون ما يأمرهم به من أعمال العباد، وجملة: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} في محل نصب على الحال من ضمير {كاتبين}، أو على النعت، أو مستأنفة.
قال الرازي: والمعنى التعجيب من حالهم كأنه قال: إنكم تكذبون بيوم الدين، وملائكة الله موكلون بكم يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة، ونظيره قوله تعالى: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قول إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
[ق: 17، 18].
ثم بيّن سبحانه حال الفريقين فقال: {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ} والجملة مستأنفة لتقرير هذا المعنى الذي سيقت له، وهي كقوله سبحانه: {فَرِيقٌ في الجنة وَفَرِيقٌ في السعير} [الشورى: 7] وقوله: {يَصْلَوْنَهَا يوم الدين} صفة لـ: {جحيم}؛ ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من الضمير في متعلق الجارّ، والمجرور، أو مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل ما حالهم؟ فقيل: {يَصْلَوْنَهَا يوم الدين} أي: يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به، ومعنى {يصلونها}: أنهم يلزمونها مقاسين لوهجها، وحرّها يومئذ.
قرأ الجمهور {يصلونها} مخففاً مبنياً للفاعل، وقرئ بالتشديد مبنياً للمفعول.
{وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغائبين} أي: لا يفارقونها أبداً، ولا يغيبون عنها، بل هم فيها، وقيل: المعنى: وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون حرّها في قبورهم.
ثم عظم سبحانه ذلك اليوم فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدين ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدين} أي: يوم الجزاء، والحساب، وكرّره تعظيماً لقدره، وتفخيماً لشأنه، وتهويلاً لأمره، كما في قوله: {القارعة مَا القارعة وَمَا أَدْرَاكَ مَا القارعة} [القارعة: 1 3] و{الحاقة مَا الحاقة وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحاقة} [الحاقة: 1- 3] والمعنى: أيّ شيء جعلك دارياً ما يوم الدين.
قال الكلبي: الخطاب للإنسان الكافر.
ثم أخبر سبحانه عن اليوم فقال: {يوم لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يومئِذٍ لِلَّهِ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو برفع: {يوم} على أنه بدل من {يوم الدين}، أو خبر مبتدأ محذوف.
وقرأ أبو عمرو في رواية: {يوم} بالتنوين، والقطع عن الإضافة.
وقرأ الباقون بفتحه على أنها فتحة إعراب بتقدير: أعني أو اذكر، فيكون مفعولاً به، أو على أنها فتحة بناء لإضافته إلى الجملة على رأي الكوفيين، وهو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو على أنه بدل من {يوم الدين}.
قال الزجاج: يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه مبنيّ على الفتح لإضافته إلى قوله: {لاَ تَمْلِكُ} وما أضيف إلى غير المتمكن، فقد يبنى على الفتح، وإن كان في موضع رفع، وهذا الذي ذكره إنما يجوز عند الخليل، وسيبويه إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي، وأما إلى الفعل المستقبل، فلا يجوز عندهما، وقد وافق الزجاج على ذلك أبو على الفارسي، والفرّاء، وغيرهما، والمعنى: أنها لا تملك نفس من النفوس لنفس أخرى شيئًا من النفع أو الضرّ {والأمر يومئِذٍ لِلَّهِ} وحده لا يملك شيئًا من الأمر غيره كائنا ما كان.
قال مقاتل: يعني لنفس كافرة شيئًا من المنفعة.
قال قتادة: ليس ثم أحد يقضي شيئًا، أو يصنع شيئًا إلا الله ربّ العالمين، والمعنى: أن الله لا يملك أحدًّا في ذلك اليوم شيئًا من الأمور، كما ملكهم في الدنيا، ومثل هذا قوله: {لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله: {وَإِذَا البحار فجرت} قال: بعضها في بعض، وفي قوله: {وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ} قال: بحثت.
وأخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأخرت} قال: ما قدّمت من خير، وما أخرت من سنة صالحة يعمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، أو سنة سيئة تعمل بعده، فإن عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيئًا.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس نحوه.
وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من استنّ خيراً فاستنّ به فله أجره، ومثل أجور من اتبعه من غير منتقص من أجورهم، ومن استن شرّاً فاستنّ به، فعليه وزره، ومثل أوزار من اتبعه من غير منتقص من أوزارهم» وتلا حذيفة: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأخرت}.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} قال: غرّه والله جهله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل، وحافظين في النهار يحفظان عمله ويكتبان أثره. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة الانفطار:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا السَّمَاء انفطرت} أي: انشقت كما في آية {وَيوم تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ} [الفرقان: 25]، {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتثرت} أي: تساقطت. والانتثار استعارة لإزالة الكواكب؛ حيث شبهت بجواهر قُطِعَ سلكها. وهي مصرحة أو مكنية.
{وَإِذَا الْبِحَارُ فجرت} أي: فتح بعضها إلى بعض، لزوال الحاجز بزلزلة الأرض وارتجافها.
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} أي: بحثت وأخرج موتاها.
قال الشهاب: يعني أزيل التراب التي ملئت به وكان حتى على موتاها، فانفتحت وخرج من دفن فيها. وهذا معنى البعثرة، وحقيقتها تبديد التراب أو نحوه، وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته، فقد يذكر ويراد معناه ولازمه معاً، كما هنا. وقد يتجوزّ به عن البعث والإخراج كما في سورة العاديات. والفارق بينهما أنه أسند هنا للقبور فكان على حقيقته. وَثَمّ لما فيها، فكانت مجازاً عما ذكر. ثم قال: وذهب بعض الأئمة كالزمخشري والسهيلي إلى أنه مركب من كلمتين اختصاراً، ومثله كثير في لغة العرب ويسمى نحتاً. وأصله: بعث، وأثير أي: حرك وأخرج، وله نظائر كبسمل وحقول ودمعز، أي: قال: بسم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأدام اللهُ عزَّه. فعلى هذا يكون معناه النبش والإخراج معاً. ولا يرد عليه أن الراء ليست من أحرف الزيادة، كما توهمه أبو حيان، فإنه فرق بين التركيب والنحت من كلمتين، والزيادة على بعض الحروف الأصول من كلمة واحدة، كما فصله في (المزهر) نقلاً عن أئمة اللغة.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ} أي: لذلك اليوم من عمل صالح أو سيّئ {وَأخرت} أي: تركت من خير أو شر، أو المعنى: ما قدمت من عمل طيب لم تقصر فيه، وما أخرت: أي: قصرت فيه. والمراد بالعلم بالتقديم والتأخير، وجدان الجزاء عليهما، وتحقق مصداق الوعد عليهما.
{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أي: أي: شيء خدعك وجرأك على عصيانه والانحراف عن فطرته؛ وذكر {الْكَرِيمِ} للمبالغة في المنع عن الاغترار؛ لأنه بمعنى العظيم الجليل الكامل في نعوته، ومن كان كذلك فجدير بأن يرهب عقابه ويخشى انتقامه وعذابه، لاسيما وله من النعم العظيمة والقدرة الكاملة ما يزيد في الرهبة، كما قال: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} أي: جعلك سويّاً متساوي الأعضاء والقوة. وأصل التسوية جعل الأشياء على سواء؛ فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به {فعدلك} أي: جعلك معتدلا متناسب الخلق، معتدل القامة، لا كالبهائم. وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى المشدد، أو بمعنى صرفك عن خلقة غيرك إلى خلقة حسنة، مزتَ بها على سائر الحيوان {فِي أي صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} أي: في أي: صورة شاءها ركبك عليها. يعني أنه ركبك في صورة هي أبدع الصور وأعجبها. فـ {أي} استفهامية، والمجرور متعلق بـ: {رَكَّبَكَ}، و{مَا} زائدة وجملة {شَاء} صفة {صُورَةٍ} والقصد أن ما خلق هذا الخلق البديع وسواه وعدله بقدرته وتقديره، حتى أحكم صورته في ذلك التركيب، لجدير بأن يُتّقى بأسه ويحذر بطشُه ويرهب أشدَّ ترهيب.
تنبيه:
قال الإمام ابن القيم في (الجواب الكافي) في بحث كون القرآن من أوله إلى آخره صريحاً في ترتيب الجزاء بالخير والشر، والأحكام الكونية، على الأسباب ما تتمته: فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب، وهذا من أهم الأمور فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وأخرته، ولابد. ولكن تغالطه نفسُه.
ثم ذكر من أنواع المغترين من يغتر بفهم فاسد فهمِه هو وأضرابه من نصوص القرآن والسنة فاتكلوا عليه.
قال: كاغترار بعض الجهال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فيقول: كرمه. وقد يقول بعضهم: إنه لقن المغتر حجته. وهذا جهل قبيح، وإنما غره بربه الغرور، وهو الشيطان ونفسُه الأمارة بالسوء وجهله وهواه؛ وأتى سبحانه بلفظ {الْكَرِيمِ} وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال لحقه؛ ووضع هذا المغتر الغرور في غير موضعه، واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به. انتهى.
وفي مثل هذا الغرور يجب- كما قال الغزاليّ- على العبد أن يستعمل الخوف، فيخوِّف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه، ويقول: إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب. و: إنه مع أنه كريم، خلّد الكفار في النار أبد الآباد. مع أنه لم يضره كفرهم، بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا، وهو قادر على إزالتها، فمن هذه سنته في عباده- وقد خوفني عقابه- فكيف لا أخافه؟ وكيف أغتر به؟
فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل، فما لا يبعث على العمل فهو تمن وغرور، ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم، وسبب إقبالهم على الدنيا، وسبب إعراضهم عن الله تعالى، وإهمالهم السعي للآخرة، فذلك غرور. وقد روي أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة. وقد كان ذلك، فقد كان الناس في الإعصار الأول يواظبون على العبادات، و{يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] يخافون على أنفسهم، وهم طول الليل والنهار في طاعة الله، يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات، ويبكون على أنفسهم في الخلوات، وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين، مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله، راجون لعفوه ومغفرته، كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه مالم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون، فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى، وينال بالهوينا، فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم؟!
ثم قال: والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف، ولا يتفكر فيه متفكِّر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه، وإن كان مؤمناً بما فيه. وترى الناس يهذَّونه هذّاً: يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها، وكأنهم يقرؤون شعراً من أشعار العرب، لا يهمهم الالتفات إلى معانيه، والعمل بما فيه، وهل في العالم غرور يزيد على هذا؟ انتهى.
{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}
قال الإمام: أي: لا شيء يغرك ويخدعك، بل إن سعة عطاء ربك وحكمته في كرمه، تدلك وتوحي إلى نفسك أنك مبعوث في يوم آخر لثواب أو عقاب، وإنما الذي يقع منك أيها الْإِنْسَاْن هو العناد والتكذيب بالدين، أي: الجزاء، أي: الانصراف عمداً وعناداً عما يدعو إليه الشعور الأول، وعن الدليل الذي تقيمه الرسل، والحجة التي يأتي بها الأنبياء، مع أن الله تعالى لم يترك عملاً من أعمالك إلا حفظه وأحصاه عليك حتى يوفيك جزاءه كما قال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} أي: رقباء يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم {كِرَاماً كَاتِبِينَ} أي: يكتبون ما تقولون.
{يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} أي: من خير أو شر، أي: يحصونه عليكم، فلا يغفلون ولا ينسون.
قال الرازيّ: أن الله تعالى أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم؛ لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم، ولمّا كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج كتاب بشهود، خوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة فيَخرج لهم كتب منشورة، ويَحضر هناك ملائكة يشهدون عليهم، كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره، فيقولون له: أعطاك الملك كذا وكذا، وفعل بك كذا وكذا، ثم قد خالفته وفعلت كذا وكذا. فكذا ها هنا. والله أعلم بحقيقة ذلك. انتهى.
ولا يخفى أن الحفظة الكرام وعملهم، من الغيب الذي لا يمكن اكتناهه؛ فيجب الإيمان به، كما ورد مع تفويض كنهه إلى بارئه تعالى. ومن الفضول في العلم التوسع فيما لا يدرك بالنظر وتسويد وجوه الصحف بها. وبالله سبحانه التوفيق.
{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} قال ابن جرير: أي: أن الذين برّوا بأداء فرائض الله، واجتناب معاصيه، لفي نعيم الجنان ينعمون فيها.
والأبرار جمع بَرّ بفتح الباء وهو المتصف بالبِّر بكسرها، أي: الطاعة.
قال الأصفهاني: وقد اشتمل عليه قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيوم الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ على حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وقوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} أي: الذين فجروا عن أمر الله، أي: انشقوا عنه وخالفوه، وهم من لم توجد فيهم نعوت الأبرار المذكورة في الآية قبلُ.
{يَصْلَوْنَهَا يوم الدِّينِ} أي: يوم يُدان العباد بالأعمال، فيجازون بها.
{وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغائبين} أي: بخارجين، لأنهم مخلدون في صليّها. وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يوم الدِّينِ} تفخيم لأمر ذلك اليوم وتعظيم لشأنه، أي: أي: شيء أعلمك به؟ أي: أنت لا تدريه مع أنه من أوجب ما تهمّ درايته والبحث عنه. والخطاب للإنسان المتقدم أول السورة.
ثم فسر تعالى بعض شأنه بقوله: {يوم لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً} أي: من دفع ضر أو كشف همٍّ {وَالْأَمْرُ يومئِذٍ لِلَّهِ} أي: أمر الملك الظاهر ونفوذ القضاء القاهر، يومئذ لله وحده؛ لاضمحلال الممالك وذهاب الرياسات.
قال الرازيّ: وهو وعيد عظيم، من حيث إنه عرّفهم أنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ، دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء. اهـ.